في أحد المرات التي مررت بها بأحد باعة الكتب المتجولين جوار بوابة الجامعة، وجدت كتابا يحمل عنوان "لو كان كافكا يحمل هاتفا نقالا" وعلى صورة الغلاف صورة كتاب يقرأ كتابا آخر ويشرب عصير التوت الأحمر أو ربما شيء آخر. أعجبني الغلاف جدا وأعجبني الاتكاء على (كافكا) في العنوان على غرار رواية هاروكي موراكامي "كافكا على الشاطئ". قلت لنفسي حركة معروفة يونس، كافكا؟! 

غلاف لو كان كافكا يحمل هاتفا نقالا

لم يثرني الكتاب على أي حال لقراءته أو شراءه. نسيت أمره بعد ذلك تماما. 

بعد فترة من التقلّبات على الإنترنت ومن الضجر والسأم من مواقع التواصل الاجتماعي وجدت نفسي راسيا على موقع حسوب IO . تابعت رواده بصمت إلى حد ما، وكنت أدخل إلى مدونة كل (بارز) في نقاشات الموقع، وجمعت الكثير من المدونات. دخلت إلى مدونة يونس بن عمارة وأعجبني محتواها الأدبي وغير الأدبي وأعجبني كثير من نقاشاته وحججه ومنطقه وثقافته الواسعة. وجدت بعد ذلك أنه كتب "لو كان كافكا" وأضاء مصباح بجانب رأسي مخبرا عن أنه هو يونس! كاتب ذلك الكتاب. أووووه. 

استمرّت المتابعة والاستفادة من تعليقاته ومشاركاته وخاصة عندما يحيلك في كل حُجّة ومعلومة إلى رابط، ويصفعك بكتابين أو أكثر، وكأني بكثير من رواد الموقع قائلين "كم قرأ هذا كتبا؟". كما أنه يحب المساعدة ولم يتخل عن روح التعاون والعطاء لرواد موقع حسوب طوال فترة قد يمل فيها أي أحد من طولها. 

في فترة قريبة، قام يونس بنشر كتاب إلكتروني "أفيد ١٠٠ تعليق على حسوب IO"جامعا فيه تعليقاته على هذا الموقع والتي تعتبر مقالات مستقلة لما فيها من الفائدة والعمق والطول. قررت في تلك الفترة قراءة كل منتوجه الكتابي في كتبه الإلكترونية بدءاً من كتاباته الساخرة "كانسل" وليس انتهاء بـ "أفيد ١٠٠ تعليق على حسوب". حاولت قدر الإمكان أن أرصد تطور الكتابة والنضج الذي مر به بالبدء بالأقدم متجها نحو الأحدث، فقرأت كل كتبه الإلكترونية وهي متفرقة ولكنها قصيرة على أي حال، ثم قرأت بعضاً مما ترجم حيث قرأت ترجمته للقصة القصيرة" المكتبة الغربية" لهاروكي موراكامي ورواية "مهد القطة" لكورت فونيجت.

رواية مهد القطة

قرأت سلسلة "كانسل" الساخرة وفيها كثير من (الجو الجزائري البحت) الذي لم أفهمه، وقرأت "منطق الغاب" و"قطع دونات" و"القصة الغرائبية" و"قصة الحاجة زهية" والرواية القصيرة أو شبه الرواية "اللاشيء أو كل الأشياء" و"صوصن" و"الكشف عن برقع ليلى"، وهذه كلها يمكنني أن أضعها في مرحلة من تجربته الكتابية. أما "لو كان كافكا يحمل هاتفا ذكيا" و "الكاف على مشرحة لم يعرفها لوتامريون" فهما في مرحلة أخرى. والمرحلة الثالثة هي كتاب "أفيد ١٠٠ تعليق على حسوب IO".  سأقول لماذا قسمت هذه الكتابات على هذه المراحل لاحقا. 

لنعد الآن ولنتوقف لحظة لنعرف من هو يونس بن عمارة. هو شاب جزائري - من وادي سوف - جاد، عشريني كما أحسب، ولتعرف كم هو جاد أنه كان يريد الزواج منذ ٢٠١١ وربما كان معظم من يقرأ المقال (بما فيهم كاتبه) مازالوا أطفالا في تلك المرحلة. من مواليد ١٩٩١م.  كما يقول في مدونته "يونس بن عمارة، كاتب ومدون، مهتم بالكثير من الاشياء: السياسة ليست من بينها :)". ويقول عن نفسه في حسابه الشخصي في موقع (يومي) "قارئ نهم قبل عصر الانستغرام والنسكافيه، كاتب ومترجم مستقل، رئيس تحرير موقع تقنية 24..". وعلى صفحته في تويتر "ولو أتعبتكـ الحياةـ فقل أن هناك كتابا جيدا في مكان ما، يَحتاجني/يجتاحُني لأقرأه !"

صورة يونس بن عمارة

أسس يونس "دار الزنبقة للنشر الإلكتروني" ويبدو أنها توقفت. يتولى حاليا تحرير موقع تقنية ٢٤. ويعمل مترجما في مؤسسة هيكل ميديا .. صاحبة "هارفارد بزنس ريفيو وإم أي تي تكنولوجي ريفيو والعلوم للعموم" وغيرها. نشر يونس ورقيا كتاباه "لو كان كافكا يحمل هاتفا نقالا" عن دار كلمات و"الفتاة التي أرادت الزواج بالمسعودي" عن دار ضمة. ترجم يونس كتبا عديدة: روايتي "المسلخ رقم ٥" و"مهد القطة" وكلتاهما  لكورت فونيجت و"أنثروبولوجي على المريخ " لأوليفر ساكس والقصة القصيرة "المكتبة الغريبة" لهاروكي موراكامي وترجم "الحضارة الإسلامية عبر ٣٠ شخصية: الألف سنة الأولى" لتيش ف. روبنسون وترجم أيضا رواية "دعوة إلى جلسة قطع الرأس" لفلاديمير نابوكوف. 

الآن يقوم يونس بتسجيل بودكاست "يونس توك" وفيه خلاصاته في الترجمة والكتابة وصناعة المحتوى، وهي مفيدة وقد استمعت إليها جميعا كما أذكر، رغم أني لست مترجما ففيها المفيد للمترجم وغيره. 

يونس توك

حسنا عرفنا يونس وأعماله، لنرجع للوراء قليلا ولنتحدث عن التقسيم الذي افترضناه على كتبه... 

القسم الأول من "كانسل"، بداية التكوين وفيه مقالاته الأولى وقصصه والتي فيها الكثير من السخرية والفوضى الأدبية الجميلة والجمل الاعتراضية التي لا يحبها (رسل) والكثير من التشتت وذِكر الكثير من الكتّاب والكتب والكتب والكتب. 

أحصيت تقريبا كل الكتاب والكتب التي ذكرها يونس في كتاباته ووضعتها في ملف إكسل لكي تعرف كم اطلع هذا الإنسان على كتب وأنت (أو بعضهم) أكسل من قراءة هذا المقال بحجة أنه طويل! 

المرحلة الأولى يمكن تسميتها مرحلة التشتت diffuse mode بحسب كورس "تعلم كيف تتعلم" وهي مرحلة أساسية للإبداع والتفكير خارج الصندوق ولكنها فوضوية غير محكمة وتحتاج تهذيبا يسمي مرحلة التركيز focus mode، ويمكن لتوضيح ذلك أن الكتابة في أول مرة تكون في مرحلة التشتت وتحرير الكتابة بعد ذلك هي مرحلة التركيز.

كانسل

المرحلة الثانية هي مرحلة "لو كان كافكا" و"الكاف على مشرحة" وفيها الكثير من المقالات الرائعة جدا مرتبة وفكرتها مكتوبة كتابة إبداعية ورصينة وتصل إلى رأس القارئ كما هي في رأس الكاتب مع ذكر الكثير من الكتب والكتاب. هذا ما جعل أكثر الناقدين حدة في "جوود ريدز" لا يستطيع نفي تهمة "نهم القراءة" عن يونس بن عمارة.  لم يتخلص يونس من كتابته عن الكتب حيث يمكنك أن تجمع مكتبة كاملة من إحالاته التي لا تنتهي وربما سيبتكر فنا أدبيا آخرا هو فن "الإحالات المندسة داخل مقال" ومن يدري.  تحسنت مقروئية الكتابة إلى مستوى في هذه المرحلة بعكس المرحلة الأولى التي بدأها مرة بقصة وبدأتُ أندمج في الأحداث وإذا بها تنتهي إلى حوارات عن الكتب وردود وانتهت القصة نهائيا. المقالات في هذه المرحلة جميلة، فلسفية وأدبية وثقافية ودينية رائعة. 

لو كان كافكا طبعة ثانية

بعد هاتين المرحلتين تأتي المرحلة الثالثة وهي بعد اطلاع يونس على العلوم وريادة الأعمال والذكاء الاصطناعي والتسويق وأشياء أخرى كثيرة، ومساهمته الإيجابية والفاعلة على حسوب IO فقد اكتسب بنهمه لقراءته للكتب وتعلمه للعلوم الحديثة الحكمة، "وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا" وهكذا يرد بتعليقات ثرية على مختلف رواد الموقع من الأسئلة الوجودية الفلسفية إلى أسئلة دينية مختلفة إلى أسئلة ريادية وتسويقية وغيرها. هذه التعليقات كانت ارتجالية وليست مثل أن تكتب لأجل أن تكتب كما أن الموقع لا يسمح بتعديل تعليقك بعد مرور وقت قصير وقد يلي هذه التعليقات ردود من معترضين يتبعها رد من يونس، وهكذا رد برد يثري النقاش وفيها من الفائدة الأدبية والعملية الشيء الكثير. 

أفد ١٠٠ تعليق كبته على منصة حسوب IO

وهنا سأعلق على بعض التعليقات التي وجدتها على goodreads:

**العنوان **

هناك اعتراضات من بعض المراجعين على كتاب "لو كان كافكا" بأنه لم يتوسع في الأمر وإنما كان مقالا وبقية الكتاب لا يمت لذلك بصلة.. رأيت العديد من كتب المقالات يتخذ الكاتب مقالا واحدا ويضعه في عنوان الكتاب وبقيته في مواضيع متنوعة فلا مشكلة هنا. أما اعتراضهم الآخر وهو إقحام "كافكا " فيشبه إقحام هاروكي موراكامي في روايته "كافكا على الشاطئ" وقد ذكر يونس المقال المتصل الذكر بكافكا فليس من ضرر. أنا أقرأ الآن كتاب "ساعات بين الكتب" للعظيم العقاد وكان العقاد يضع العنوان أحيانا بأسماء أساطير يونانية ينتقل بعدها إلى موضوع المقال مثل "ليسستراتا" ليتحدث عن الأسطورة الأغريقية والحركة النسوية الحديثة وفي مقال "ثاميرس أو مستقبل الشعر" ليتحدث عن مستقبل الشعر في مصر والعالم عامة. 

انتقاده القاسي على بعض الأدباء

هنا فتح يونس على نفسه النار من كثير من الناس الذين سيسيئون له بحجة "ومن أنت لتنتقد الأديب الكبير فلان" وفي الغالب هذا المنتقد لم يقرأ لمن يدافع عنه أصلا. أو في انتقاده  - أي يونس- لأحلام مستغانمي وهي الأديبة الجزائرية من أكثر الأدباء رواجا ليس على مستوى الجزائر وحسب بل شهرتها تمتد إلى بقية بلدان الوطن العربي. 

**الأخطاء اللغوية والإملائية. **

ونعم، للأسف، أنا أوافقهم في أن التخلص من الأخطاء الإملائية والنحوية يرفع مقام الأديب ولا يجعله معرضا للنقد بدون طائل بسب ذلك. سمعت من يونس عبر بودكاسته عن قصة النحوي قديما الذي لم يستطع أن يكتب رسالة وأن التشدد في هذه العلوم يحجّم الدور الأدبي ومساحة الإبداع. نعم ولكن الحد الأدنى لابد منه. حتى على مستوى وضوح الفكرة ودقتها ووصولها إلى القارئ بدون أي لبس وتشتت. وكما قال علي بن أبي طالب -- كرم الله وجهه -- "الخط الحسن يزيد الحق وضوحاً" فكذلك الإملاء والنحو وعلامات الترقيم (الحسان) يزدن الحق وضوحاً!

التنقل من موضوع لموضوع

هذا من الأشياء الجميلة التي أعجبتني وتجعل الكتاب أكثر متعة وليس عيبا كما قالوا بل هو أشبه بالمغامرة لا تعرف إلى أين ستحط رحالك. 

**الوعظ الديني؟؟؟!! **

يعني ماذا تريدون؟ أن ينكر دينه وآراءه الدينية أو يخفيها لكي يكون أديبا ألمعيا؟ ما الذي لم يعجبكم في آرائه ففندوها أو لا تقولوا شيئا.  

إملاء الأوامر فيما لا يجب عليك قراءته

يعترضون عليه في مقاله عن الأدب السيء أو أدباء لا أنصح بهم. ما المشكلة في ذلك، أليس النقد الأدبي هو التمييز بين الصحيح والزائف من الأدب وتمييز الجيد من السيء، وكيف ذلك إن لم نقل أن ذلك الأدب سيئا؟ لم يقولوا لنا ما الذي أعجبهم بأدب أولئك ولكن الحديث عن الوصاية الأدبية! لا أعزائي، الوصاية تكون من الدولة عندما تمنع كتبا من النشر وتحاربها وتحظرها أما أن يقول لكم كاتب لا تقرأوا للكاتب الفلاني بحجة أن كتابته (ٍسيئة) فلن يسجنكم إن اقتنيتموه. المشكلة أن الكثير من المراجعين على الكتب يطلقون أحكاما مثل أن هذه المرة الأخيرة التي أقرأ لهذا الكاتب أو ذاك فما تلك إن لم تكن وصاية؟!

أنه يطرح آراءه الشخصية!!!

ماذا تريد يا أيها النحرير؟! أن يطرح آراء غيره، أو لا يطرح شيئا إطلاقا، أو يكتب كتابا علميا ويملأه بالمصطلحات الغريبة والأشكال والرسومات والمحور السيني والصادي؟! بالتأكيد هو يطرح آراءه الشخصية فهي نصوصه هو. حتى أنت فعلت هذا وكتبت مراجعة عبرت فيها عن رأيك الشخصي. أرأيت كم هي جريمة!

في الأخير أود أن أقول: يجب أن نحاكم الكتاب إلى ما يدعيه الكاتب في أول مرة أو في المقدمة. يعني، لا يجب علينا أن نحاكم كتابا خفيفا فيه نصوص متفرقة يقرأ في جلسة واحدة على أنه كتاب لم يدرس موضوع الكتابة والتأثير التكنولوجي عليها والتأثير الكافكوي على الأدب الحديث ككل! يريدون كتابا أكاديميا أكثر من ٤٠٠ صفحة ومليء بالمصطلحات والجداول وأن يقرأوه في جلسة واحدة ويحسوا بكل تلك المتعة؟! محال. على هؤلاء أن يقرأوا كتاب مبادئ الرياضيات لرسل ولنرَ مدى استمتاعهم.  

قال يونس في حواره مع طارق ناصر "قلت ذلك فيما مضى الذي دفعني الى تأليفه [كتاب "لو كان كافكا يحمل هاتفا نقالا"] هو تحفيز الشباب على القراءة، وهذا ما فهمه البعض وغفل عنه آخرون. " وأيضا "يحتاج الواقع العربي إلى عدة عناصر في نظري لكي يتطور وهي أن يأخذ الأمور بجدية، وأن يفعّل العقلية الريادية (ركز على الحل وليس المشكلة) في ذهنيات أبنائه وأن يستخدم التقنية لصالحه وأن ينشط ثلاثة جوانب من الاقتصاد وهي: اقتصاد المعرفة والاقتصاد التعاوني والاقتصاد المستقل" وهذا يعكس اهتمامه بريادة الأعمال وتشجيع المبتدئين في العمل الحر وإنشاء مشاريعهم وأن ينجحوا ماديا. 

شكرا يونس، على كل مساعداتك لكل هؤلاء الشباب، بتحفيزهم على القراءة بشعورهم بضآلة كل ما قرأوه، أو بالإجابة على أسئلتهم وإعانتهم على تحقيق استقلالهم المادي ونجاحهم العملي، فكل هؤلاء ممتنون.

وأختم بهذا الاقتباس من "لو كان كافكا" 

" لو كان كافكا يملك هاتفًا نقالا .. لما كتب شيئًا ذا بال (كما يقول الكاتب)، ولكن هل كلمة (ذو بال) هذه، مناسبة للسياق؟!، لا أدري، فشعوره بالوحدة وبسوداوية العالم، وبمأساة الوجود البشري عليه، وكل هذه الخصائص الكافكاوية ستتضاعف في حالة امتلاكه لهاتفه النقال، رغم أن كاتب كتاب (لو كان كافكا)، يقول إن قاعدة الكتابة معروفة، أن تقرأ كثيرًا (1)، وأن لا تكبح خيالك أبدًا (2)، وهذا كل شيء، فكل النصائح الأخرى -- كما يقول - إنما تدور وتدعم (هذين الأمرين)، فلو كان كافكا يملك هاتفًا نقالا -- مرة أخرى! -- لما توافر له الوقت للقراءة كثيرًا، وهذا يهدم الشطر الأول من قاعدة الكتابة، ولأن في هذا الكتاب فقرة تقول إن الآبل والأندروييد لم يجعلا البشر يتصلون، وإنما هي نوكيا فقط!، ويقصدون بذلك هواتف نوكيا القديمة إذ أنها توضع في الجيوب (أي: بعد انتهاء المكالمة!)، أما تلك فكامل الوقت وأنت تحدق فيها منتظرًا للجديد، وما هو الجديد أصلاً في هذا العالم؟ - كما يتساءل الكاتب ويجيب: - لا شيء!، ولذا يبكي قلبُ الكاتب يوميًا لهذا الأمر، فَأيُّ فَلاَّحٍ رُومَانيِّ يَعْرَفُ هَذا، إذن ما دام لا جديد تحت شمس الآبل والأندروييد، فمِن أين يأتي هذا الخيال الذي لا يُكبح".

بقية المقال تجدونه في الكتاب.. لا تنسوا أن تقرأوا بقية الكتاب أيضا.. استمتعوا..

لو كان كافكا يحمل هاتفا نقالا طبعة أخرى