كنت قد كتبت هذه الأفكار في سلسلة من التغريدات على تويتر، ثم جمعتها هنا لقراءة أفضل

لاحظت أن أكثر ما يخيف الناس من الذكاء الاصطناعي هو فقدان وظائفهم، وهو أمر يستحق القلق حينما يتعلّق الأمر بالرزق وإعالة أنفسهم وأهليهم..

ويقول المتفائلون أن تطبيقات الذكاء الاصطناعي لن تستبدل البشر، ولكن ستزيد إنتاجيتهم.. ولكن يا تري هل زيادة الإنتاجية ستقلل الكثير من الوظائف؟

الحقيقة أن مشاعري مختلطة تجاه هذه التقنيات، وأرى أن تشبيهها بالتقنيات القديمة التي قضت على وظائف قديمة وأنشأت وظائف أخرى، أراه غير دقيق.. فتقنيات الذكاء الاصطناعي تزاحم البشر وتجرح كبرياءهم في الذكاء الذي يتباهون به على غيرهم من المخلوقات..

فقد بدأ بزحزحة الأعمال الراسخة المعتمدة على الذكاء والتحليل البشري في الأعمال القائمة على المعلومات والتعامل معها.. والتقدم في جانب الروبوتات جار على قدم وساق..

والمثير أنه منذ شهر مارس الفائت قامت الدنيا ولم تقعد على هذه الاختراقات التقنية الخطيرة.. ما تزال كثير من الأمور غير واضحة، ويزعجني الكثير ممن يتحدثون عن اختفاء وظيفة واحدة بسبب الذكاء الاصطناعي، ولو حدث ذلك فعلا فليست وظيفة المتحدث بمأمن من اجتياح الذكاء الاصطناعي لها..

والحديث عن الوظائف من حيث زوالها أو استحداثها أمر يصعب الحديث عنه من زاوية واحدة.. فمن ناحية كفاءة المؤدي لها (كان بشرًا أو آلة) والجانب العاطفي الذي يدفع الزبائن لإنفاق المال، وشعور الزبون بالمكانة، وإشباع بعض الحاجات، والسياقات الاجتماعية والثقافية والسياسات الدولية إلخ. كلها تدخل في عوامل التأثير للوظائف، والحديث عنها (بجرة قلم) من جانب أو زاوية واحدة تهوّر.

وكما أن أصحاب الترويج الشعبوي للعلوم (والعلمويين) أضروا بالعلم حيث جعلوه في صراع مع الكثير من الأمور التي ما كان ينبغي أن يتصارع معها (والعلم منتج بشري في نهاية المطاف) فكذلك الذين يتحدثون عن الوظائف باستخفاف سيعطون ردة فعل تحارب التطور التقني وتعمل ما في وسعها لتبطيئه وتحجيمه.. ووجود هذا الصراع يضر بالتقنية والعلم اللذان وجدوا من أجل خير ورفاهية البشر، وإلا فلا فائدة منهما..

لذلك أقترح وجود مؤسسات وحتى شركات تقيّم الحاجة والطلب على الوظائف كلها بحسب الدول والأقاليم ومدى انحسار أحدها وزيادة الطلب على الأخرى حتى يعرف الناس أين بوصلتهم المهنية..

أقترح أن تصدر هذه (الجهات) تقاريرها المهنية فصليا أو حتى شهريا فيعرف عموم الناس ما لهم وما عليهم، وأن يتحروا الدقة العلمية ما أمكن، حتى لا تكون التخرّصات والبلبلة هي ما يسود.

وعلى التقنيين -وأنا منهم- أن يعرفوا حدود معارفهم وأن يحترموا التخصصات الأخرى ويقدّروا المجهود الذهني والبدني لكل منها حتى ما يستنقصون منه..

والحقيقة أن الدعوات (الهدامة) التي تقلل من شأن الجد والاجتهاد في العلوم والتخصصات بدعوى وجود ذكاء اصطناعي يقوم بالأمور عوضًا عن البشر ما هو إلا تضييع للإبداع وإنتاج موظفين هم أقرب للاستبدال الذي تدعو له هذه الدعوات!!

وربما يكون ضعف الإنتاج البشري بسبب الذكاء الاصطناعي عاملا أساسيا في ضعف الذكاء الاصطناعي مع مرور الزمن والله أعلم..

وربما يكون للجودة البشرية المتقنة احتياج وطلب أكبر في المستقبل حيث تندر في عالم من مدخلي ال prompts!

لابد من أخذ الأمور بجدية والاستفادة من هذه التقنيات التي صارت واقعا..

ومن قوة وتسارع تقنيات الذكاء الاصطناعي صار الكثير يتحرّزون بأن إمكانية استبدال البشر أو الذكاء الاصطناعي ذي الوعي الذاتي أو الذكاء الاصطناعي العام أو وصول الآلة للتفرد singularity ليس ممكنا (في زماننا) وليس مستحيلا على الإطلاق!

وبالحديث عن الوظائف فالأزمة الاقتصادية المتفاقمة من الحرب الروسية الأوكرانية ، وتسارع حدة الصراع الأمريكي الصيني، وحالة ارتباك الاقتصاد من بعد جائحة كورونا في ٢٠٢٠م، كل هذا أدى إلى أزمة اقتصادية يتحدث عنها الجميع خاصة في الغرب، وحتى تسريحات الموظفين بالآلاف من الشركات الأمريكية.. في مطلع هذا العام، ومع تزامن هذه الأزمات مع فورة الذكاء الاصطناعي الهائلة، فسيربط كثير من الناس بوعي أو بلا وعي بين التسريحات الكبرى وانتشار العطالة، وبين الذكاء الاصطناعي المتنامي تناميا جنونيا.. وسيؤثر هذا أشد التأثير في الربط بين الأمرين، ما لم يوفر الذكاء الاصطناعي عددا هائلا من الوظائف التي تقضي على هذه الارتباطية..

وإذا كان هذا الأمر في الغرب (مهد التقنية)، فما بال الدول الفقيرة ودول العالم الثالث كما تسمى؟!

لا أخفيكم أنني كنت أشعر بحالة نفسية مزعجة في شهر مارس من شدة (الصفعات التقنية) المتتالية في شهر واحد ربما لأنني أعيش في قوقعة تقنية ومعظم من أتابعهم من التقنيين، ولكن لم أشهد مثل هذا الأمر على الإطلاق.

فما بال غير التقنيين حين تتتالى عليهم مثل هذه الأنباء بهذه الوتيرة المتسارعة؟!

ومع ذلك كنت أستفيد من تشات جي بي تي في عملي إلى جانب البحث في جوجل والاستعانة بمساعدة الأصدقاء البشريين واستخدمت المساعد البرمجي جت هب كوبايلوت، وكان ينفعني أحيانا ويضرني باقتراحاته أحيانا.. لم أكن بمعزل من استخدام هذه التقنية التي فرضت نفسها، وهذا الاستخدام يخفف من العبء النفسي، حيث ترى بنفسك قصور التقنية وتميزها، وتزول عنها تلك الهالة السحرية!

وقد يعرف بعض الناس كيف يلتفون على مثل هذه التقنيات مثلما أضرت (مزارع المحتوى) التي أضرت بمحركات البحث التي كان رائدة في الذكاء الاصطناعي (هل نسميه الآن بالتقليدي؟)

يخاف الناس من المستقبل أكثر من الحاضر..

ما زالت الوظائف هي الوظائف، وهذه التقنيات أخذت حيزًا في مساعدة الموظفين، وهناك مشاريع تُنشأ وتستحدث بالعشرات يوميا، وكل هذا خير إلى حد الآن.. ولكن يخاف الناس من تطور هذه التقنيات للتغلب على إمكانيات البشر الراسخة منذ القرون!

والطرف الخاسر في السيناريو (المتشائم) هم الطبقات المتوسطة والفقيرة.. أما الغنية فسيكون عليها من السهل توظيف هذه التقنيات لمزيد من الثروة..

هذا دفعني للتفكير الجاد ببناء أحد المشاريع المعتمدة على هذه التقنيات ولو من باب إثبات القدرة على التعامل معها حتى لو لم تكن مجدية من ناحية تجارية.

أؤمن أن الرزق بيد الله، و"وفي السماء رزقكم وما توعدون"، وأن السعي الجاد مع التوكل كاف في أخذ الرزق في كل زمان ومكان في هذه الدنيا.. فنصيحتي لي ولكم:

١- تعميق الأيمان بأن الرزق بيد الله وكيف يرزق كل الكائنات مهما ضعفت وبدت أسبابها بعيدة.

٢- إتقان أصول المهنة حق الإتقان، هذا ما يميزك مهما تطورت التقنيات أو تراجعت.

٣- متابعة التطورات في المجال ومحاولة توظيفها لخدمة المهنة نفسها.

٤- عدم تقديس التخصصات الضيقة، فإمكانيات الإنسان وقدراته أكبر من تخصص أو مجال. الجمع أو حتى الإلمام بالمجالات المختلفة يفتح فرصا كثيرة.

٥- احترام تخصصات الغير مهما بدت سهلة وتقدير جهد أصحابها.

٦- التفكير خارج أطر الوظيفة، فقد يكون في العمل الحر أو إنشاء مشروع خاص بديلا جيدا.

كانت هذه أفكارا عشوائية أحببت مشاركتها معكم بخصوص التطورات الهائلة في الذكاء الاصطناعي.. أرجو أن تفيد ولو قليلا

والله أعلم..